استقر الرهان السياسي فى مصر مع نهاية العام الماضى، على أن عام 2008 هو موسم تسوية طبخة "توريث الحكم" بوضع التوابل والاضافات النهائية قبل تقديمها فى أبهى صورها سهلة الهضم والتنفيذ، فكل المقدمات التى طرحت نفسها على الواقع السياسي فى 2007 تؤدى الى هذا الرهان .. وأبرزها "عملية" تعديل 34 مادة من الدستور التى شهدت استعراض الحزب الوطنى بقوته البرلمانية من خلال تهميش مطالب كل القوى السياسية فى التعديلات .. وهجمة أزرعة النظام على الصحافة المستقلة فى أعقاب شائعة وفاة الرئيس مبارك.
ورغم زيادة فرص تنفيذ تلك "الطبخة"، وتراجع صوت القوى المعارضة لهذه "العملية"، الا أن التوريث الاكبر والمؤكد فى مصر الان هو "توريث الفقر" للشعب أصبح المصير الذى لا يخضع لاحتمالات ولا يقف على عوامل أو ظروف بعينها، وخاصة مع وصول الدين العام الداخلى فى مصر خلال الموسم المالى 2006/2007 الى 637.2 مليار جنيه، وهو المديونية التى على حكومات الحزب الوطنى المتوالية والتى اقترضتها من أفراد ومؤسسات لمواجهة الطوارئ التى صنعتها بقرارتها، او تحقيق أهداف لا تكفى لتغطيتها الإيرادات العامة من ضرائب ورسوم وايرادات سياحية وايرادات قناة السويس والبترول وكل ثروات مصر.
فى ملف توريث الحكم لم يستجد أمرا محوريا بخلاف زيادة نفوذ لجنة السياسات بالحزب الوطنى الحاكم تصاعد قوة رجاله وفى مقدمتهم رجل الاعمال أحمد عز أمين تنظيم الحزب، وهو الصعود الذى يبرز صراع التيارات بداخله كنتيجة حتمية لتغيير الدماء، وتغيير طريقة العمل بين رجال ترعرعوا فى مقرات الاتحاد الاشتراكى، وتنقلوا بين احزاب الحكم كتنقلهم بين غرفهم الخاصة، وبين رجال يديرون السياسة بنظريات الربح والخسارة.
قضية توريث الحكم كانت محل اهتمام تقرير رسمي صادر عن مركز أبحاث الكونجرس الأمريكى الاسبوع الماضى، الذى وصف الوطنى الحاكم بأنه حزب "نخب اقتصادية وسياسية"، وليس مؤسسة ذات "أيديولوجية"، وهو ما يعنى أنه حزب يقوم على رجال وليس على منهج واضح، وأن حكومته تستعرض عضلاتها فى عملية قمع المعارضة تمهيدا لتمرير سيناريو التوريث من خلال "استيلائه" على أكثر من 80% من مقاعد البرلمان، مع تأكيده على أن الحزب منى بخسارة فى الانتخابات البرلمانية التى اجريت فى 2005، مما دفعه الى ضم المستقلين الذين فازوا بمقاعد في البرلمان إلى صفوفه.
واذا كانت الاحتمالات تقودنا الى سيناريو انتقال السلطة من الرئيس الاب الى الرئيس الابن، فى ظل تأكيدات لا يجب اغفالها بالنفى المتكرر لما تعتبره المعارضة امرا مسلما به، الا أن العنصر المؤكد الوحيد فى مستقبل الشعب هو أنه محاصر بالديون، ومطالب بسداد فاتورة أخطاء الحكومات والمؤسسات الاقتصادية، خاصة مع وصول الدين المحلى الى هذا الرقم البشع والذى يمثل 87% من الناتج المحلى الاجمالى للمجتع المصري، ومع اضافة الديون الخارجية الى الدين الداخلى والتى تقدر بنحو 28 مليار دولار، فإن اجمالى الدين العام يصل الى 799.8 مليار جنيه بنسبة 109.4% من الناتج المحلي الإجمالى في نهاية يونيو الماضى، وفقا لتأكيدات الدكتور جودت الملط رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات فى مجلس الشعب مطلع الشهر الجارى، ليصبح نصيب المواطن من الفقر والدين أكثر من 10 آلاف جنيه.
بمعنى أننى وزوجتى وابنتى ان كنا نأمل فى مستقبل أفضل، وغد أكثر رفاهية يمكن ان نحلم به لأطفالنا، مطالبين بدفع ما قيمته 30 ألف جنيه، هو نصيب عائلتى الصغيرة من الدين العام الذى نعرف بديهيا أن واقعه الحالى لايساعد نهائيا ومهما فعلت حكومة نظيف ومن سيأتى بعدها علي زيادة معدلات النمو الاقتصادى ورفع هذا العبئ عن الاقتصاد القومي.
ووفقا لتاريخ الدين العام المحلى وحده على أن قفزته الاكبر كانت فى عهد الدكتور عاطف عبيد صاحب أشهر ابتسامة تفاؤل فى ديون رئاسة الوزراء والذى تسلم الدين العام مع توليه رئاسة الوزراء فى
أكتوبر 1999 وحجمه 217 مليار جنيه من الدكتور كمال الجنزورى، وترك تركة ثقيلة لحكومة الدكتور أحمد نظيف بتخطيه حاجز الـ 510 مليار جنيه، فى حين تكفلت حكومة الاخير برفعه الى حدوده الحالية (637 مليار جنيه).
أما حكومة الجنزورى رجل الارقام الأول فى العالم، وصاحب الذاكرة التى أمطرتنا بالاحصائيات عن الاصلاح الاقتصادى المنشود على الهواء مباشرة، فكانت حكومته وراء ارتفاع الدين العام المحلى من 172 مليار جنيه الى 242 مليار فى 3 سنوات فقط تولى فيها المنصب العالى.
فى حين شهدت الاعوام الخمس الاخيرة من العمر المديد لحكومة الدكتور عاطف صدقى رحمه الله رفع الدين المحلى العام من 97 الى 172 مليار جنيه، وهى الارتفاع الأدنى مقارنة بمن جاءو بعده وكان قرار الاستدانة بالنسبة لهم، أسهل من قرار الموافقة على أراضى الدولة لشباب رجال الاعمال.
ما نريد قوله من تلك الاحصائيات أن المشكلة مزمنة، وتدرج زيادة الدين العام بالمقارنة بالناتج المحلى للمصريين خلال السنوات العشر الاخيرة فقط من 70% الى 87% ليس واقعا مفاجئا لأولى الأمر، بل هو مصير محتوم وواقع لا فرار منه، ويتطلب منذ عشرات السنين حلولا حاسمة تكفل السيطرة عليه.
مصر لم تترك موقع الريادة الذى بشرنا به الكبار قط، وحتى حتى فى حجم الدين الداخلى بها فهى من اكثر الدول العربية والاجنبية لأنها تقترض على أمل سد العجز المستمر فى موازنتها، دون أن تسعى لتقليص العجز من خلال ترشيد الانفاق الحكومى – تلك القصة المكررة التى مللنا من سماعها منذ فجر التاريخ – وليس للاستثمار فى مشروعات جديدة تضيف للناتج المحلى.
باختصار .. تلك هى الأرقام وهذا هو الواقع، ولا نذكره من باب التذكير بالمشكلة، لأن أوان التذكير قد مضى، ولكن المطلوب حلا سريعا يوقف هذا الغول الذى وصل الى مرحلة النمو الذاتى، بمعنى أن الدين ينمو باستمرار نتيجة تراكم الأقساط والفوائد حتى وان توقفت الحكومات عن الاستدانة، وهو أمر يصعب حدوثه مع استمرار نفس النهج الذى تدار به الأمور فى مصر.
واقتبس هنا جملة أعجبتنى لمشرف أحد المتديات المصري ويدعى أحمد حسين، يتسائل فيها عن هذا الرقم الضخم، وإلى أين ذهب، فإن كان قد استثمر فى استصلاح الاراضى الزراعيه لكانت ارقام التجارة الخارجيه تتحدث عن صادرات مصر، ولو استثمر فى العقارات لما كان هناك ازمه سكنيه، وان استثمرت فى السياحه لكانت ايرادتنا تفوق اسبانيا، واذا ما كانت قد استثمرت في التعليم لكان لدينا ثوره علميه، ولو بنيت بها المصانع مصانع لما كان لدينا عجز تجارى مع معظم دول العالم، وان انشأت بها الموانئ والمناطق الحره الحقيقيه لما كنا نحسد دبي على ما هى عليه.
عمليا بشرنا وزير المالية يوسف بطرس غالي باستحالة تخفيض الدين العام، لاستحالة من وجود فائض في موازنة مصر، بمعنى أن توريث الفقر مؤكد .. حتى وان تأجل توريث الحكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق