من حكر أبو دومة الى القرنة بالأقصر مرورا بروض الفرج وجزيرة الدهب
* لم تعد الحكومة تهتم باعتراضات الناس .. فاستخدام الكرباج لديها أصبح أسهل من إغضاب المستثمرين
* الأراضى التى يتم نزع ملكيتها للمنفعة العامة وطرحها للاستثمار.. دائما ما يسكنها الضعفاء والمقهورين
* انتظر سكان جزر النيل مدرسة ومستشفى طيلة حياتهم فنزعت الدولة ملكية أراضيهم لبناء المنتجعات
* فى الأقصر ثانى أكبر عملية تهجير واعادة بناء فى تاريخ مصر ضمن خطة للوكالة الأمريكية للتنمية
تهجير يلاحقه تهجير أصبح يطارد المصريين فى وطنهم، حتى بات تعريفا الوطن صعبا فى زمن يروج فيه للمواطنة، فمن أقصى الشمال الى أدنى الجنوب يطارد شبح التهجير الناس، يهددهم يالتشريد والتيه فى دواوين الدولة بحثا عن حقوقهم، ولم لا وواقع التجارب المصرية مع التهجير ليس مشرفا فى معظمه، ويكفى الاستشهاد بتجربة تهجير النوبيين من أرضهم فى الستينيات لبناء السد العالى مشروع مصر القومى الأكبر، وهى عملية التهجير التى صنعت قضية تكاد تهدد أمن البلاد من لا قضية، كمن يصنع النار من وهج الشمس، ويغرق أرضه من قطرات المطر
فى مصر الأن تدور عجلة التهجير على أعلى سرعاتها، تهجير فيه رائحة الدولار، حيث يقف المستثمرون خلف كل عملية يتم فيها شحن قوات الامن المركزى بهرواتهم السوداء وحناجرهم المرعبة، لإجبار الناس على ترك بيوتهم .. لم تعد الحكومة تهتم باعتراضات الناس ولا تجمهرهم، فاستخدام الكرباج أصبح أسهل بكثير من عناء البحث عن مناطق أخرى للمستثمرين الذين يريدون المكان الجاهز الصالح من وجهة نظرهم لمشاريعهم وأبراجهم ومنتجعاتهم، والتى يتصادف دوما ان الفقراء يشغلونها
حدث ذلك فى جزر النيل حين انهارت الحياة البسيطة التى يعيشها أهالى جزيرة "القرصاية" التى تبلغ مساحتها 75 فدانا عندما فوجئ السكان، بطرد عدد من سكانها من 6 أفدنة يزرعونها بدعوى استخدامها للمصلحة العامة
تلك المصلحة التى أصبحت عامة لأنها فى أيدي الفقراء والمقهورين، والتى واجهوا فيها مصيرا سمعوا دائما عنه، وهو طردهم من الجزيرة لصالح بعض المستثمرين، وحين رفضوا الخروج من أرضهم، أطلقت أيدى جحافل الامن بالأعيرة النارية فى الهواء لزرع الرعب فى النفوس والضرب بالهراوات والعصى المكهربة والتهم الجاهزة من عينة محاولة قلب نظام الحكم
أنه التعامل بقسوة لا يفهم لها الناس سببا ولا يجدون لها مبررا سوى كونهم ضعفاء، كانوا ينتظرون عطف الحكومة فلم يجدوا سوى الاذلال والتشريد، وكأن مصيرهم المكتوب أن تؤخذ منهم أرض الدولة لتمنح لأخرون يمنحهم المال والسلطة تعريف أخر فوق البشر
وما حدث فى جزيرة "القرصاية" نقل رعب التهجير الى أهالى جزيرة "الدهب" التى تبعد عنها بأقل من 200 متر وتبلغ مساحتها نحو 350 فدانا، ويبلغ عدد سكانها نحو 20 ألف نسمة، خاصة أنهم يسمعون عن نية الحكومة منح بعض الجزر للمستثمرين، وكذلك جزيرة بين البحرين، حيث تم تجاهل الجزيرتين من برنامج الإحصاء السكانى الجديد، بدلا من أن يمنحوهم حلمهم الذى انتظروه نصف قرن وتلوه على كل مرشح فى كل انتخابات وهو مدرسة ومستشفى لخدمة الأهالى، كما انتقل الرعب ذاته الى جزيرة الوراق التى يخشى سكانها (60 ألف نسمة) اليوم الذى سيهجرونهم فيه من أراضيهم وتسليمها لرجال الأعمال والقطاع الخاص لبناء حديقة ترفيهية, وفندق 5 نجوم
الناس الأن لا تحلم بأن تنال من الحكومة شيئا، فقط تحلم بأن تبتعد عنها بمستثمريها ورجالها القادرين على تحويل التراب الى ذهب، وزراعة الابراج الزجاجية مكان النخيل وعيدان الذرة، فى إطار خطة تستهدف تحويل القاهرة إلى منتجع سياحى كبير على غرار إمارة دبي .. مكان لا موضع فيه للفقراء
وكانت قضية جزيرة الدهب قد لا قت اهتماما اعلاميا كبيرا عندما صدر قرار رئيس الوزراء بنزع ملكية الجزيرة للمنفعة العامة بعد أن أعلن المخرج العالمى "يوسف شاهين" عام 2001 ، عن رغبته فى أن يصور فيلما يفضح المسئولين عن مشروع نزع الملكية من آلاف الفلاحين، قائلا أنه لا يرغب فى رؤية ناطحات سحاب ترتفع وسط النيل
والمؤسف أن حكوماتنا لا تجيد حتى تعويض الناس عن تهجيرهم واقتلاعهم من جذورهم، وأسألوا أهل المنطقة الكائنة خلف مبنى التليفزيون بماسبيرو، ممن قامت محافظة القاهرة بإخلاء وهدم بيوتهم بحجة توسيع الحرم الأمنى للتليفزيون وعلى الرغم من قيام الأجهزة المعنية بتسليم السكان والمستأجرين وحدات سكنية مماثلة بمنطقة النهضة إلا أن التعويضات التى طرحتها لم تزد عن 25 جنيها للمتر فى الوقت الذى يقدر فيه الخبراء ثمن المتر بهذه المنطقة بما يتراوح بين 30-50 ألف جنيه للمتر وذلك وفقا لدراسة للمركز المصرى لحقوق السكن
ولا فى حالة سكان منطقة ميت عقبة الذين تم اقتلاعهم فى التسعينيات لمد طريق محور 26 يوليو الهام والحيوى، حيث تم القاء نصفهم فى مساكن بطريق الفيوم والنصف الاخر فى عمارات غير أدمية ببشتيل وبات مطلوب منهم التأقلم، أيضا ما زالت مشكلة أهالى قلعة الكبش الذين تعرضت عششهم العشوائية للحريق، ليفيقوا فى شهر ابريل الماضى على وقع خطوات 6 آلاف جندى 6 بلدوزرات ومائة عامل لهدم ما تبقى من أشباه المنازل التى تأويهم، محتمين خلف القنابل المسيلة للدموع، ثم خداعهم بالنداء على اسمائهم بزعم تسليمهم مسكنهم البديل قبل القائهم فى الصحراء
وفى الأقصر قامت الدولة بثانى أكبر عملية تهجير طوعى فى تاريخها الحديث لـ 3400 أسرة من منطقة القرنة للتنقيب عن الآثار، الى جانب نزع ملكية 550 فداناً من أجود وأخصب الأراضى الزراعية بقرية المريس وهدم 618 منزلاً بها لإقامة مرسى للمراكب السياحية وفنادق ومطاعم وبازارات سياحية، وذلك فى إطار خطة كبرىتمولها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لإعادة بناء الأقصر وتحويلها إلى مدينة "مفتوحة" خالية من السكان بحلول عام 2030، وكانت البداية بتفريغ القرنة من سكانها، فى موجة من المحاولات بدأت باشتباكات بين الاهالى وقوات الأمن فى 17 يناير 1998، وكانت النتيجة قتل أربعة من السكان وجرح 20 آخرين على يد قوات الأمن، وانتهت مؤخرا بانصياع الاهالى لجبروت القوة، والانتقال الى القرية البديلة
من الأقصر للقاهرة يحلق رعب التهجير، فيحاول سكان وتجار وكالة البلح طرد هواجس المصير نفسه، ذلك المصير المحبوك بسيناريو واحد، وهو نزع الأرض التى تبلغ مساحتها 120 فدانا تطل على نيل القاهرة فى مواجهة وجهاء الزمالك، من الفقراء ومنحها للمستثمرين
احتفظت الدولة دائما بسلطان نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامة – دون ان تحدد معنى المصلحة العامة وهل هى مصلحة 15 آلف مواطن مثلا أم مصلحة عموم المستثمرين، فحصلت السلطة التنفيذية على حق نزع الملكية، مع إعطاء القضاء سلطة مراقبة مشروعية ذلك، ولكن ما يحدث من الحكومة فى المقابل هو إصدار قرارات الإخلاء والإزالة والعمل على تنفيذها سريعا بالقوة الجبرية وبتواجد أمنى كثيف للقضاء على أية محاولة للاعتراض، حتى بعد صدور حكم ببطلان القرار الإدارى لكى لا يبقى أمام المواطنين سوى الرضا بالتعويض لترسيخ الواقع
احتفظت الدولة بسلطان تدمير المجتمعات الاصلية ونقلها الى مناطق تتناقض تماما مع تلك التى عاشوا فيها، ليعانوا من الاختلاف التام فى أحوال المعيشة وأماكن العمل والتكلفة الإضافية للمواصلات وغيرها
حتى حينما تنزع الملكية للمنفعة العامة لاقامة محطة مياه فإن الدولة تستخدم القوة الغاشمة لتهديد البشر وسحقهم كما حدث مع اهالى كفر العلو بحلوان ممن طرد سكان 37 من منازله، وتجريف الأراضى الزراعية وتدمير المحاصيل، على أيدى قوات الأمن المركزى
ولن تتوقف خطة التهجير فى مصر وصولا للقاهرة 2050 التى تم الاعلان عنها الا وقد تم تغيير معالم العاصمة لتصبح للأغنياء فقط وتهجير الضعفاء منها الى مناطق على الحواف ليأكلوا بعضهم البعض هناك، فوفقاً لتقرير وزارة الاستثمار ستمتد سياسة التهجير إلى منطقتى أثر النبي, وروض الفرج لإنشاء مراكز للأنشطة التجارية, ومبانى سكنية وإدارية وفنادق بالإضافة إلى ميناء نهرى ومنتجعات نهرية نظرا لتمتع روض الفرج بواجهة مائية 4 كم على النيل، كما سيحدث مع منطقة حكر أبو دومة التى سيهجر اهلها لانشاء مشروعات سياحية وترفيهية ليست لها علاقة بالنفع العام بقدر ما لها علاقة بمصالح المستثمرين
لسنا ضد عاصمة جميلة منظمة .. لكننا ضد التهام الفقراء على موائد المستثمرين .. وقهرهم بعصا الامن الغليظة، ونحذر من أن اتساع موجات التهجير يخلق عزلة وكراهية للوطن الذى فقد معناه ومقوماته .. وفقط من يفهمون يعرفون خطورة ذلك
* الصورة من موقع جريدة البديل التى استعنت ببعض المعلومات المنشورة بها فى صياغة المقال
حسن الزوام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق