كان الوفد يضم عدد من رجال الدين الاسلامى والدعاة واطباء واعلاميين وشخصيات عامة، يهدف الى التأكيد على دعم شعب مصر للعراق فى ازمتها الراهنة لمواجهة الطاغوت الامريكى المتجبر، وكان برنامج الزيارة عامرا باللقاءات الرسمية مع عدد من الوزراء ورجال الدولة المقربين من الرئيس العراقى صدام حسين.
ورغم حرصى الشديد على حضور تلك اللقاءات ومشاركتى فى فعالياتها، الا ان همى الاول كان منصبا على الاقتراب من الشارع.. والمواطن.. والالم العراقى، تسبقنى افكار تخيلتها عن الوضع فى بغداد من واقع سيل التقارير الاعلامية عن الازمة وعن التسليح الامريكى وانفراط عقد الشارع العراقى وانكسار معنوياته بشكل يجعله مهزوما قبل ان تبدأ المعركة الظالمة التى تنوى الادارة الامريكية شنها على العراق لتنفيذ مخططها الصهيونى باضعاف الوطن العربى - المشلول اصلا – من خلال ضرب مواطن القوى قيه واحدا تلو الاخر.
ولكن شتان الفارق بين ما ذهبت وانا محملا به من معلومات مسبقة وما لمسته فى الشارع العراقى سلبا وايجابا لذلك ساسعى فى السطور التالية ان ارسم بعض الملامح التى حفرت فى ذهنى خلال تلك الزيارة القصيرة التى قضيت منها 48 ساعة فى طرقات بغداد احدث اهلها واتابع مشاعرهم وعاداتهم واحاسيسهم وهم مقبلون على حرب مددمرة لا سند لهم فيها الا الله وصمودهم.
هنا بغداد
بغداد مدينة نظيفة ومنظمة (علمت ان محافظات الشمال العراقى اكثر روعة وجمالا ).. اهلها مسالمون رغم ربع قرن من الحروب وكعادة المدن التى ترتكز على تاريخ يضرب بجذوره فى الارض.. تحمل فى طياتها ثقافات عدة ولكن للوهلة الاولى تشعر فى تفاصيلها باحساس مؤكد ان تلك المدينة الغنية قد اصابها الفقر الاقتصادى من واقع حصار ظالم فرضته الادارات الامريكية المتوالية.. لتصبح مثل الباشوات الذين افقرتهم الثورة فى مصر.. فملامح العز والغنى بادية على ملامحها ولكن لا حركة ولا حراك.. الدينار العراقى الذى كان يوما ما تصل قيمته الى ثلاثة دولارات و300 سنت امريكى اصبح الان بلا قيمة اسمية او فعلية ليصل الدولار فى بغداد – فى السوق السوداء – الى 2087 دينار وهناك علمت ان متوسط الاجور يتراوح بين 10 الاف و 50 الف دينار ولكن رغم ضخامة الرقم تتقزم القدرة الشرائية للعراقيين، اذا ما علمنا مثلا ان كيلوا اللحم يصل الى 4 الاف دينار وهذا الرقم كان كافيا يوما ما لشراء سيارة مستعملة وكعادة الطماطم المجنونة فى مصر يصل يصل الكيلو الى 250 دينار.. كل شئ هناك غالى الثمن.. وجبة العداء فى المطاعم تصل الى 10 الاف دينار وعلبة السجائر 500 دينار.. فى بغداد عرفت ان ظهور المتسولين امرا لم يكن يوما ليحدث لولا الحصار الاقتصادى على العراق.. وان اطفال هذا البلد الذى يملك على ثانى أكبر مخزون مثبت من البترول فى العالم يصل الى 110 مليار برميل سيلجأون يوما الى ترك مدارسهم والعمل فى مهن شاقة من اجل لقمة العيش فى بلد كان يعمل فيه يوما خمسة ملايين مصرى غير الجنسيات الاخرى ليصبح واحدا من كل أربعة أطفال عراقيين يهجرون المدرسة للعمل نظير اجر يصل الى 10 دولارات ( 20000 دينار ) فى الشهر وهو الاجر عرفت من احد الاطفال الذى يعمل فى محل لتصنيع الاحذية واخر فى محل حداد انهم يحصلون عليه.
وطن مريض بالكرامة
وعلى الرغم من الازمة الاقتصادية الطاحنة التى يمر بها العراق الا ان كرامة العراقيين وروحهم المعنوية لم تتأثر وخاصة فيما يتعلق بمواجهة امريكا ولة الحرب التى تقودها الى الدمار، لم المس فى حديث اى مواطن عراقى نوعا من الخوف او الاستسلام، كلهم هناك يرددون كلمة واحدة وكأنهم اتفقوا عليها.. " سنحيل حياة الامريكان الى خراب اذا ما اقدموا على عزو بغداد " سألت احدهم وانا ابحث عن اجابة صريحة.. لماذا اعطيتم صدام حسين 100 % فى الاستفتاء الاخير وهو اجماع لم يحصل عليه الانبياء انفسهم.. فقال كانت "لا لامريكا.. ونعم لصدام.. نعم للكرامة.. نعم للصمود" قلت له والفقر الذى تعانون منه.. فقال " امريكا لا تفعل ذلك لوجود صدام.. انها تريد تدمير العراق وسرقة خيراته وبتروله واضعاف قوته من اجل توفير الحماية للصهاينة وضرب اى قوة تهددهم.. امريكا قامت على العراق مؤخرا لانه كان البلد العربى الوحيد الذى قطع البترول لمدة شهر احتجاجا على مجزرة جنين وبسبب تجهير جيش القدس.. امريكا تفعل ذلك لانها تريد ان تمحى كرامة العراق.. لكنها لن تنال ذلك ابدا.. ابدا "
تساءلت عن اهل الشمال والجنوب حيث مناطق الحظر الجوى والمناورات الامريكية لقيادة انقلاب عراقى داخلى على صدام وموقفهم وروحهم المعنوية فجائنى صوت شاب من الجنوب يؤكد لى ان اهله اكثر اصرارا على الصمود وتلقين الامريكان درسا لن ينسوه.. وانهم مدربين بشدة على الحرب البرية.
صورة اخرى لمستها فى بغداد.. وهى اصرار القيادة العراقية على عدم ترك اثر واحد للقصف الجوى على العاصمة ابان حرب تحرير الكويت والتى يطلق عليها العراقيين لقب الحرب الثلاثينية نسبة الى مشاركة 30 دولة فى تحالف دولى ضدهم.. شاهدت البرج الذه قصفته امريكا،وقد اقيم امامه تمثال للرئيس العراقى وهو يقف وتحت قدميه بقايا صاروخين اطلقا على البرج.. وعندما صعدت الى قمته لارى بغداد من فوق ارتفاع يتجاوز 120 متر بغداد الشامخة بأحيائها الجديدة ذات الارتفاعات التى لا تتجاوز طابقين.. شاهت حركة بناء المسجد الكبير الذى سيكون من اكبر مساجد العالم.. ما اجمل بغداد وما اجمل كرامتها
اطفال العراق
كانت اخر زياراتنا الرسمية مع الوفد المصرى الى مستشفى صدام التعليمى.. حيث ترسم ملامح الجريمة الامريكية بكامل حذافيرها.. فى صورة اطفال.. رضع وصغار اصابهم السرطان من جراء القصف الامريكى المستمر للعراق بالقنابل التى تحتوى على اليورانيوم المنضب.. اطفال لا جريرة لهم.. صورتهم تكتب بحروف من دم على صفحات التاريخ تفاصيل جريمة حرب ثابتة على جبين الشعب الامريكى وقيادته الصهيونية.. جريمة تخجل منها الانسانية ولا تكفى الكلمات لوصفها.. حالات نادرة وتشوهات خلقية.. شاهد تفاصيلها الوفد الطبى المصرى.. كل انواع الامراض السرطانية واللوكيميا اصبحت تغزو الاجساد الهزيلة للاطفال هناك.. كل هذا والادروية محظور استيرادها حتى عقاقير علاج ازمات القلب.. والاجهزة وحضانات الاطفال.. كل شئ توقف عند ما وفره الطب عام 1990.. حتى المستشفى الذى كان يوما من افضل المستشفيات فى العالم.. اصبحت مبنى قديم.. مصاعده معطلة ومحظورة استيراد مصاعد اخرى بحجة استخدامها فى تصنيع الاسلحة، وبكل هذا الالم الذى تحجرت بسببه الدموع فى عيون الوفد المصرى.. لا ينسى العراقيون.. ما ردت به مادلين اولبرايت على سؤال وجه لها حول الحصار على العراق.. وهل يستحق الامر ان يتسبب فى قتل نصف مليون طفل عراقى.. حين قالت "نعم يستحق"، والمؤكد ان ذاكرة العراقيين لن تنسى ابدا ثأر ما تجرعته من الام على يد امريكا.
مصر فى العراق
لم اتحرك داخل بغداد بصفتى الصحفية.. لكننى تحركت بجنسيتى المصرية كزائر عادى معتمدا على ما لمسته من ان المواطن العراقى لا يميل لمتابعة الاخبار السياسية ولا يعرف الكثيرون بوجود وفد مصرى هناك وقد لا يصدق البعض اننى قابلت هناك من لا يعرفون شيئا عن القصف الامريكى على محافظات الشمال والجنوب العراقيين.. المهم اننى لمست ترحيب واضح لكونى مصرى.. فاهل بغداد يحبون المصريين.. صحيح ان نسبتهم تضائلت بفعل الحصار والحروب والفقر الى اقل نسبة لها فى تاريخ البلدين الا ان العراقيين يحبوننا.. ويفضلون المصريين عن غيرهم.. التليفزيون العراقى.. يعرض المسلسلات المصرية باستمرار.. وفى رمضان كان مسلسل نور الشريف " العطار وبناته السبعة " يحظى باعلى نسبة مشاهدة، يليه مسلسلى اين قلبى وفارس بلا جواد.. والاخير يعاد عرضه اكثر من مرة هناك على مدار اليوم.. كل المواد الدرامية مصرية.. حتى فى دور العرض السينمائى بشارعى السعدون وابونواس تعرض الافلام المصرية رغم انها قديمة.. حتى ان سينما السندباد كانت تعرض فيلم امرأة وخمسة رجال لفيفى عبده.. ولم يكن غريبا ان تسمع اصوات هانى شاكر وايهاب توفيق وعمرو دياب تخرج من المحلات التجارية هناك.. اما نجم الوفد المصرى فكان القارئ الطبيب صلاح الجمل الذى يحظى برنامجه "ملائكة الرحمن" باعلى شعبية لدى العراقيين، وكانوا يحرصون دائما على التقاط الصور معه ويطلبون منه ان يدعو لهم فيما يواجهون.
على المستوى الاقتصادى عرفت خلال حفل الافطار الذى دعانا اليه وزير التجارة العراقى محمد مدى صالح ان مصر تحتل المركز الثانى فى مجال التعاون الاقتصادى مع العراق وذلك من بين 75 دولة تتعاون معها العراق "أى بعد روسيا مباشرة و أن حجم التبادل التجارى مع مصر العام الماضى بلغ مليارا و700 مليون دولار وهو مالم يحدث فى تاريخ العلاقات بين البلدين حيث كان حجم التبادل بينهما قبل الحصار المفروض على العراق 50 مليون دولار فقط، وأن حجم التبادل التجارى بين العراق والدول العربية خلال الخمس سنوات الاخيرة بلغ 26 مليار دولار.. وهنا شهادة حق لابد منها فى حق رجل الاعمال عماد الجلدة الذى يعتبره العراقيين والمصريين هناك اخيهم الذى يعطيهم وقت الحاجة.. عند شركته فى حى العراصات ببغداد وجدت عراقيين ومصريين يلجأون اليه لطلب العون قبل العيد.. هناك قابلت ام عراقية لنصف دستة اطفال رغم ان سنها لا يتجاوز 28 عام.. تبحث عن العون لدى عماد الجلدة وهى واثقة تماما انها ستحصل عليه.. قابلت هناك مصريين يبحون عن امل يعيدهم الى وطنهم مصر بعد غربة تصل الى 20 عام.. بالفعل كان منهم من جاورنى فى طائرة العودة.. وفى لقاءاتنا مع الوفود العراقية واثناء تكريم حفظة القران فى ليلة القدر بمسجد عبد القادر الجيلانى تبرع الجلدة بثمانين رحلة حج على.
عيد العراق
كم كانت سعاتى وانا اصلى العيد.. مع اخوتى العراقيين فى مسجد الامام الاعظم ابوحنيفة النعمانى.. وكم سعدت بلحظات الفرح التى كانت تغطى وجوه العراقيين فى ساحة المسجد العريق.. والعادة العراقية ان الاسرة بالكامل لابد ان تصلى صلاة العيد.. صحيح ان الملابس الجديدة لم تأت هذا العام الا ان تهديدات بوش لم تحرم العراقيين من الاحتفال ابدا.. سألت صبى عراقى بعد الصلاة.. اين ستذهب فى العيد فقال، الى الملاهى ثم الى السينما والبرج.. قلت له الا تخشى بوش.. فوضع اصبعه على رأسه قائلا.. " هذا الرجل الذى يخرف، لا اخاف منه طبعا، والمهم عندى الان ان استمتع بالعيد ".
لقطات اخيرة
· نصف ميادين العراق بها تماثيل للرئيس العراقى صدام حسين.. بينما يحتل وجه بوش الاب ارضية مدخل فندق الرشيد ليدوسها بقدمه كل زائر شاء او لم يشأ.
· فى شارع المتنبى كان العراقيون يبيعون مكتباتهم بحثا عن الما فى اعقاب الحصار، اما الان فالشارع عاد كسابقه كمنبر ثقافى يمتلئ بالمكتبات " القرطاسيات بالللهجة العراقية " وهناك تنتشر مكاتب نسخ الكتب الاصلية وبأمكانك ان تشترى كتب "محمد حسنين هيكل " بمبلغ 7000 دينار اى اقل من 20 جنيه مصرى رغم ان سعرها فى القاهرة يتجاوز الـ 30 جنيه.
· الصحف العراقية التى كانت مميزة بورقها الفاخر وطباعتها المميزة اصبحت الان فى حالة يرثى لها، اشهر الصحف هناك هى (العراق،الثورة،الجمهورية،الاقتصادى،وبابل التى يملكها عدى صدام حسين الذى حصل اثناء اقامتنا هناك على درجة الاستاذية التى تفوق الدكتوراة )
· الصدفة وحدها هى التى وضعت فى طريقى انا وصديقى الرحلة حسن سعد المصور التليفزيزنى والمخرج عبدالله عامر سائق تاكسى مصرى قضى سنوات من عمره فى العراق ويدين لها بالفضل الكبير اثناء العودة من مطار القاهرة اول ايام العيد.. السائق بكى بحرقة اوجعتنا كثيرا حينما عرف ان الوقة من فئة 250 دينار التى اهديناها له لا تكفى الان لشراء علبة سجائر فى العراق.
بغداد : حسن الزوام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق