فى مصر معالم غريبة للحركة السياسية.. تحول الصحف الى أحزاب.. والاحزاب الى صحف.. ورؤساء التحرير الى زعماء.. والزعماء السياسيين الى كتاب مقالات وأصحاب رأى ودمتم.
أزمة جريدة الدستور كشفت عن أخر تلك العلامات.. حين تبارى المعارضون فى التعبير عن تضامنهم مع الجريدة المستقلة من منطلق تعرضها لمؤامرة أفضت الى إغتيال منبرا حرا للتعبير عن الرأى.. ولكنهم ذهبوا الى ما هو أبعد من تلك الرسالة بإعتبار الدستور أقوى حزب سياسيى فى مصر.
حقيقة كانت الدستور صحيفة تعبر عن هموم الناس.. وتلعب دوار ضمن الإطار المسموح به للصحافة فى كبح فجور الفساد السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى مصر.. وكانت مدرسة صحفية لا غبار على تميزها وجهد محرريها وأفكارهم البراقة.. لكن ما هكذا يكون الحزب.
الحزب السياسى تعريفه بسيط ومعروف ويمكن وصفه بأنه جماعة من الأفراد الذين إجتمعوا على منهج واحد للعمل على تحقيق المصلحة العامة للبلاد من خلال طرح أفكارهم وتصوراتهم وبرامجهم للناس، والمنافسة على تمثيل أفكارهم فى الحياة السياسية من خلال المنافسة على بلوغ مقاعد الحكم والتشريع والرقابة.
كانت الدستور صحيفة متميزة.. تم إغتيالها بغباء سياسى منقطع النظير.. لأن الذين أقدموا على تقديمها قربانا لإرضاء النظام وسيرا تطوعيا فى السياق العام للدولة وتوجهاتها.. اعتقدوا أنهم يتعاملون مع صحفى يرأس تحرير صحيفة.. بينما يتعامل المحيطين والمتعاملين والمعجبين والمتعاطفين مع تلك التجربة.. بإعتبارها حزب.. ورئيس تحريرها زعيم سياسى.
عمليا كان ابراهيم عيسى يعتقد أنه مخلد فى رئاسة تحرير الدستور.. وأن استمرارها مرهون باستمراره.. وإزدهارها مرهون بتوهجه الفكر.. بإعتبارها التجربة التى خصبها بأفكاره.. وغذاها بتوجهاته حتى كبرت وصارت عروس الصحافة المصرية.. هو ما جعل صدمة إقالته عالية الصدى.. ومربكة ومرتبكة فى نفس الوقت.. بينما يتعامل الدكتور محمد البرادعى "عراب الإصلاح السياسى المأمول" وكأنه رئيس تحرير.. فالرجل يدعو للإصلاح ويوعّى الناس بأهميته.. ثم يتوقف وكأن رسالته انتهت عند تلك المحطة.. مطالبا الشعب بإتخاذ الخطوة التالية.. والخروج خلفه رغم أنه لم يخرج.
تعامل السياسى وكأن دوره التوعية وليس المعارضة من الشارع.. لأنه لم ير فى دخول الواقع السياسى بطبيعته الحالية أى طائل أو إنجاز أو ضرورة أو حتى أمل.. فلجأ الى الكتابة فى الصحف وعلى الفيس بوك وتويتر.. وغاب عن ساحات الإشتباك السياسية الطبيعية.. حتى صار أقرب الى كاتب الصحفى أو رئيس التحرير منه للزعيم السياسى.. ورفع ابراهيم عيسى صوته فى كل منبر حتى أصبح زعيم حزب وليس رئيس تحرير.. فى زمن تختصر فيه الأحزاب بحدود صفحات إصداراتها.. وليس أكثر.
إنه الواقع الغريب فى السياسة المصرية.. والذى أربك الجميع.. سواء من أخذ صف إبراهيم عيسى ورجاله دفاعا عن حزب الدستور.. أو أولئك الذين أظهروا شماتتهم فى نهاية زعامة ابراهيم عيسى السياسية.. وخاصة فى تعريف ابراهيم عيسى نفسه .. هل هو رئيس تحرير أقاله ملاك الصحيفة؟ .. أم زعيم سياسي تم تقليم أظافر أصابعه العشرة؟.. أم هو الاثنين معا.
حتما سيعود ابراهيم عيسى فى ثوب جديد .. وفعلها من قبل .. لكن الأمل ليس فى صدور جريدة أو إحياء أشلاء صحفية.. نريد واقع سياسى حقيقى يسمح بوجود أحزاب حقيقية .. تفكر وتخطط وتنافس على السلطة.. ولا تظل محصورة فى 16 صفحة ستاندرد أولى وأخير 4 لون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق