يركز على رفض الصدام مع الحكومة، ويعتمد على الأساليب الراقية
المهاتما مهدى !!
على طريقة المهاتما غاندى الذى أسس فى أربعينيات القرن الماضى أكبر حركة من حركات اللاعنف فى التاريخ البشري، يسير الظهور الإخوانى الأخير وتصريحات المرشد العام لجماعة الاخوان المسلمين محمد مهدى عاكف وآخرها لوكالة رويترز العالمية للأنباء يوم الاحد الماضى على نفس المنهج، فالمرشد العام كان حريصا على التأكيد ان الجماعة لا تسعى إلى صدام مع الدولة، وأن الجماعة عانت على مدى نصف قرن مضى من الملاحقات والضربات الأمنية التى اعدم واعتقل فيها عدد من كوادر الجماعة، بدءا من المستشار الهضيبى المرشد الثانى للجماعة، مرورا بالشيخ سيد قطب ونهاية بنائب المرشد الحالى الدكتور عصام العريان "وزير اعلام الاخوان"، والذى تردد عن نيته ترشيح نفسه لمنصب الرئيس.
وعلى الرغم من ان تصريحات مهدى عاكف لم تأتى بجديد على أرض الواقع ولم يختلف كثيرا عن تصرفات من سبقوه فى المنصب الموقر لدى جموع الإخوان، لكنها تؤكد إصرار المرشد على القاء الضوء على فكرة النهج السلمى للجماعة واللاعنف فى مواجهة بطش الأمن، وذلك من خلال فعل "كل ما يزيل الخوف عن أبناء الامة" على حد وصفه، بعيدا عن الصدام ولا الدعوة له، كما قال المرشد العام للإخوان أنه يرفض هذا الصدام رفضا كاملا، وهذا ليس فى أجندته إطلاقا، مؤكدا أنه لا صدام ولا مواجهة، بل التعبير عما يطلبه الشعب بأرقى الأساليب."
تلك الاساليب هى نفسها التى أسسها غاندى فيما عرف فى عالم السياسية بـ"المقاومة السلمية" أو فلسفة اللاعنف، وهى مجموعة من المبادئ تقوم على أسس دينية وسياسية واقتصادية فى آن واحد ملخصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالخصم عن طريق الوعى الكامل والعميق بالخطر المحدق وتكوين قوة قادرة على مواجهة هذا الخطر باللاعنف أولا ثم بالعنف إذا لم يوجد خيار آخر.
وتماما كم ألح غاندى فى التوضيح بأن اللاعنف لا يعتبر عجزا أو ضعفا، ذلك لأن "الامتناع عن المعاقبة لا يعتبر غفرانا إلا عندما تكون القدرة على المعاقبة قائمة فعليا"، جاءت تصريحات المرشد العام فى رسالة أسبوعية سابقة لتؤكد تناسق الأفكار حين انتقد عاكف الفهم الخاطئ لصبر الشعوب "وكان يقصد جموع الاخوان" على هذا الاستبداد واعتبار هذا الصبر ضعف أو عجز" وهو ما قاله فى رسالته الأسبوعبة نهاية ابريل الماضى.
ويتحدث عاكف دائما عن الجماعة بوصفها الامة بكل طوائفها مثلما قال بعد الاحداث التى وقعت الاسبوع الماضى وأسفرت عن مقتل احد كوادر الجماعة "طارق غنام" فى مدينة طلخا بمحافظة الدقهلية، حيث قال فى بيانه الفورى عن الاحداث "أن رجال الامن اعتدت على الامة بكل طوائفها".
وتتبع جماعة الإخوان المسلمين فى الفترة الاخيرة نفس الاساليب التى اتبعهتا سياسة اللاعنف فى رأى غاندى مثل تعمد إبراز الظلم الواقع عليها "وهو الأمر الواضح للغاية من الانتشار الاعلامى العالمى للجماعة من هذا المنطلق" وتأليب الرأى العام عن طريق وسائل مثل الاعتصام والقبول بالسجن وعدم الخوف من أن تقود هذه الأساليب حتى النهاية إلى الموت، ولكن مع استبعاد وسائل مثل الصيام والمقاطعة والعصيان المدنى من نموذج غاندى، لعدم تماشيها مع التركيبة المصرية التى لا تصل فى معارضتها للنظام الى حد الانتقلاب على الدولة، ولإختلاف القوة التى واجهها غاندى وهى الاحتلال عن تلك التى يواجهها الإخوان بقيادة عاكف وهى النظام الحاكم، على الرغم من أن عاكف قال لرويترز حين سئل عن احتمال أن اتجاه الاخوان إلى اعلان اضراب عام أو عصيان مدنى بقوله "لم نصل بعد إلى هذا. ولكن اذا كان هذا يحقق العدل والانصاف والحرية للشعب لن نتوانى عنه."
وفى النهاية يسعى الإخوان الى ما سعى اليه غاندى وهو الاعتماد فى هذه السياسة بشرط تمتع الخصم ببقية من ضمير وحرية، تمكنه فى النهاية من فتح حوار موضوعى مع الطرف الآخر، وهو ما أكده المرشد العام فى عدة حوارات منها حواره مع الأهرام العربى فى ابريل الماضى حين قال لقد دعونا للحوار أكثر من مرة ومددنا أيدينا أكثر من مرة لأننا نعلم أن أمتنا تمر بمرحلة فارقة وتواجه تحديات كثيرة, وهناك قضايا على أجندتنا الوطنية يمكن التحاور حولها من أجل مصلحة الوطن، ومن أجل مستقبل أجيالنا وقطعا لأية تدخلات أجنبية، رغم ما قاله عاكف فى المؤتمر الصحفى الأخير من قبول أى اعتراف رسمى بالجماعة قد تتقدم به الحكومة من اجل تأييد انتخاب الرئيس حسنى مبارك لفترة رئاسة جديدة، معتبرا النظام القائم فى مصر "فاشلا ومنتهيا"، وهو ما يعد تصعيدا كلاميا جديدا فى خطاب الإخوان، يتبع تصعيدهم الجماهيرى بالنزول الى الشارع والتظاهر من اجل تحقيق مطالبهم السياسية، بعيدا عن الاتهامات التى وجهت لهم وقوى معارضة أخرى فى مصر بالاستقواء بقوى خارجية وأبرزها الولايات المتجدة اتلامريكية والاتحاد الاوربى.
وتلك النقطة الاخيرة أكد عليها الإخوان اكثر من مرة درءا لأية شبهات تترد حول الحوار مع أمريكا، وخاصة أن الولايات المتحدة بدأت فى الآونة الأخيرة توجيه تصريحات من مسئولين كبار فى الادارة الامريكية، تحمل اشارات صريحة بأن أمريكا ليست قلقة من صعود التيار الاسلامى المعتدل الى منصات الحكم، بقدر قلقها من استمرار الحكومات القمعية الاستبدادية فى المنطقة، ولم يمل عاكف من نفى استقواء الجماعة على النظام بدول أجنبية، وقال "أعلنا أننا لن نتحاور مع أى حكومة إلا من خلال وزارة الخارجية المصرية احتراما لها واحتراما لنظامنا واحتراما لدولتنا، لأننا فى دولة لها نظام ومهما اختلفنا معه فإننا نحترم النظام والقوانين ولا يوجد لدينا ما نخفيه عن أحد ولسنا نملك أجندة خفية، فنحن لا نطلب أية مطالب من أية قوى أجنبية، وإنما مطالبنا هى مطالب وطنية ترتبط بعملية الإصلاح السياسى ولا دخل فيها للقوى الخارجية"، رغم أن المرشد قال فى الوقت نفسه ان هذا النظام فاشلا ومنتهيا، ويرجع ذلك الى خشيته من خسارة التعاطف الداخلى اذا ما إقترن أسم الجماعة بالولايات المتحدة فى سعيها لإعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة.
الغريب أن النهج الإخوانى الجديد – القديم، يأتي رغم أن الإمام أبو الأعلى المودودي الهندى الأصل، والذى يحمل مكانة كبيرة فى فكر الإخوان وتحمل رسائله هيبة لدى الجماعة ربما تصل الى هيبة رسائل الامام حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين، وتم إعادة طبع كتبه في القاهرة سنة 1950م وانتشرت في أوساط الإخوان المسلمين بمصر والعالم العربي، كما كان الشيخ سيد قطب يسمي المودودي بالمسلم العظيم، فى حين قال الامام المودودى عن سيد قطب (إن ما ورد في كتاب معالم في الطريق هو نفس ما أراه، بل كأنني أنا الذي كتبته، فقد عبّر عن أفكاري بدقة).
المهم أن المودودى كتب سلسلة مقالات بعنوان (الجهاد في الإسلام) عام 1926، ردا على غاندي الذي كان في قمة مجده آنذاك، لمواجهة ما وصفه بالمتخاذلين المهزومين أمام ضغط الواقع، وفقا لفكر المهاتما.
فهل هناك خلاف ما فى فكر الجماعة، ام ان سعيها الدؤوب الى التلويح باللاعنف والتوجه السلمى يأتى لمحو ما الصق بالإخوان من تاريخ دموى يعود الى أكثر من نصف قرن مضى، والتأكيد بأن جماعة العنف الأصولية التى يقال أنها خرجت من عباءة الجماعة، بعيدة كل البعد عن توجه الاخوان الحالى.
فهل ستفلح عباءة غاندي فى طرح الإخوان من جديد على الساحة الداخلية، ومغازلة الخارج بقداسة اللاعنف وثقافة المهاتما ؟؟
.. ان غدا لناظره قريب.
حسن الزوام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق