على مدى ثمانون عاما هى عمر نظير جيد روفائيل الشهير بالبابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية. والزعيم الروحى لطائفة الاقباط الأرثوذكس فى مصر والسودان والحبشة، لم تمر احداثا جسيمة فى حياته كتلك الفترة التى عاشها فى خضم العصر الساداتى، والتى مرت بمنحيات بالغة الخطورة، بين الرضاء التام والانسجام الى التجريد من الرتبة الدينية وتحديد الاقامة فى دير الأنبا بيشوى، بوادى النطرون، فربما شاءت الاقدار ان يلتقى الرجلان فى عصر واحد، وكلاهما – السادات وشنودة – سياسيا داهية وقائدا لا يحب الضعف والمشاركة، لذلك اصطدما على صخرة الخلاف السياسى والزعامة، ودفعت مصر نتيجة لخلافهم هذا اوقاتا عصيبة، نتج عنها مولد الشرارة الاولى لما قيل عنه بعد ذلك انه فتنة الطائفية بين المسلمين والاقباط.
ولد البابا شنودة فى محافظة أسيوط فى مثل هذا الشهر من عام 1923 اى انه اصغر من السادات بخمس سنوات، تخصص فى الآداب واللاهوت وعلم الآثار، فحصل على ليسانس الآداب قسم اللغة الإنجليزية عام 1947، وعلى بكالوريوس اللاهوت من الكلية الاكليريكية عام 1953.
يلقب البابا شنودة برجل دين السياسى لما اظهره من واقف سياسية بارزة ولا زال بعضها صامدا حتى الان، وهو الخليفة 117 للقديس مرقص فى كرسى البابوية فى الإسكندرية،. عمل مدرساً فى الكلية الاكليريكية، ومدرساً فى مدرسة الرهبان. ورأس تحرير مجلة "مدارس الأحد" و"الكرازة، وهو عضو فى نقابة الصحفيين،الى ان دخل سلم الرهبنة عام 1954 وأمضى عدة سنوات كراهب فى أحد الأديرة، وفى عام 1962 عين سكرتيراً للبابا كيريلوس الرابع بعد ان اصبح مطران، وفى عام 1971توفى البابا كيريلوس فحل الأنبا شنودة محله، وهو العام التالى لتولى السادات رئاسة مصر، فاجتمعت البدايات، دون ان تتفق النهايات.
كانت ذروة خلاف البابا شنودة مع السادات فى قرار اقالة البابا شنودة، او احالته للتقاعد، و تعيين مجلساً خماسياً لإدارة شؤون الاقباط مكانه، وذلك بالقرار الجمهورى رقم 491 لسنة 1981 والذى قضى بالغاء القار الجمهورى رقم 2772 لسنة 1971 بتعيين الانبا شنودة الثالث بابا للاسكندرية وبطريركا للكرازة المرقسية ، وحسب تقرير هيئة مفوضى الدولة فى القضية المذكورة فإن البابا شنودة عمد منذ توليه منصب البابا له الاتى:
اولا: تعريض الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى للخطر.
ثانيا: الحض على كراهية النظام القائم.
ثالثا: اضفاء الصبغة السياسية على منصب البطريرك واستغلاله الدين لتحقيق اهداف سياسية.
رابعا: الاثارة.
وجاء فى حكم المحكمة فى القضية المذكورة " ان البابا شنودة خيب الآمال وتنكب عن الطريق المستقيم الذى تمليه عليه قوانين البلاد، واتخذ الدين ستارا يخفى اطماعا سياسية – كل اقباط مصر منها براء – وانه يجاهر بتلك الاطماع واضعا بديلا له - على حد تعبيره - بحرا من الدماء تغرق فيها البلاد من اقصاها الى اقصاها، باذلا قصارى جهده فى دفع عجلة الفتنة بأقصى سرعة وعلى غير هدى فى ارجاء البلاد غير عابئ بوطن يؤويه ودولة تحميه وبذلك يكون قد خرج من ردائه الذى خلعه عليه اقباط مصر"
الى هذا الحد كان السادات يرى البابا شنودة، مجرد سياسى طامع، فلماذا؟ وماذا حدث؟
نبدأ من حيث حسن النوايا، بعيدا عن الاطماع ، وهو ما ورد فى شهادة السياسى الكبير فكري مكرم عبيد الذى قال فى احد حواراته الصحفية "الذى حدث بين البابا والسادات له خلفيته وهى أن هناك مطران فى بنى سويف له بنت أخت أسلمت وتزوجت من مسلم، البعض استغلوا هذا الحادث وقاموا باستفزاز المسيحيين فثار المطران واشتكى للبابا الذى ارسل بدوره للسادات فكان رده ان ذلك مجرد كلام فارغ ولا يستحق ان نتوقف عنده، فازدادت المعارضة وتقابلت انا مع بعض المطارنة فى مقره بميت أبو الكوم لسوء الحظ أن اليوم الذى حدده السادات لمقابلة هؤلاء وكان يوم أربعاء وصل شاه إيران لمصر فاعتذر السادات عن ميعاد المطارنة فتصوروا ان هذا إهانة لهم.. فقلت لهم أن الصدفة هى التى لعبت دوراً فى عدم المقابلة ومن هنا جاء التصعيد بين الطرفين ثم حدد الرئيس السادات إقامته فى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون وحاول بالفعل أن ينصب بابا آخر ، وأستطيع القول أن الذى حدث من وجهة نظرى سوء حظ وصدفة سيئة أدت الى توتر العلاقات بين البابا والسادات ولم تفلح معها المحاولات لتهدئة الأوضاع مع التصعيد المستمر وكانت النتيجة من صداقة قوية الى توتر وصراع بين الطرفين..
ولكن هل حقا الخلافات بين البابا والسادات مجرد سوء حظ، وصدفة سيئة؟
تعالوا نراجع السياسة بين الاثنين، ومواقف كلاهما ولنبدأ بأحداث الخانكة فى 6 نوفمبر 1972 – وكان يصادف عيد الفطر المبارك – حيث أحرق مجهولون كنيسة قبطية بنيت بدون ترخيص، فكيف تصرف البابا شنودة السياسى، فى اليوم التالى قام عدد كبير من القساوسة والرهبان، يتقدمهم البابا بمسيرة مشيا على الأقدام حتى موقع الكنيسة، وهو ما استفز قطاعًا كبيرا من المسلمين فأحرقوا عددا من المحلات القبطية، وتشكلت لجنة برلمانية برئاسة المرحوم د. جمال العطيفى. وأصدر العطيفى تقريره فى نفس العام وكان ضمن توصياته إصدار قانون موحد لبناء دور العبادة.
ومنذ هذه اللحظة بدأ السادات يشعر ان البابا يقود الاقباط وكأنه زعيم سياسى وليس رجل دين وأعتبر هذه المسيرة الغير مسبوقة، تحديا مسيحيا وتمردا علنيا على حكمه، واستمر تشدد السادات فى عملية بناء وترميم الكنائس وتطبيق الشروط العشرة والخط الهمايونى، وقام باستقطاب بعض العناصر القبطية "منهم الاب متى المسكين" المناوئة للبابا الذى واصل بدوره تحديه للرئيس السادات وأعلن رفضه لخططه، فى الوقت الذى كان السادات يحرص على الظهور بمظهر الرئيس المؤمن، واتخذ لدولته شعار العلم والإيمان.
فى المقابل لم ترق تصرفات السادات للبابا شنودة، فكان توجهه بزيادة عزلة الاقباط فى المجتمع، وانسحبوا بشكل شبه كامل إلى الكنيسة، التى وفرت لهم كل الخدمات التى تغنيهم عن الدولة، من خدمات اجتماعية وثقافية، بل وحتى تدخلت لتوظيف الشباب العاطل فى انشطة داخل الكنيسة، وفى هذا الوقت كانت المناوشات بين الاقباط والمسلمين فى مصر تأخذ شكلا متصاعدا، حتى جاء عام 1980 واخذ الصدام بينهما ذروته بعد الأحداث الطائفية التى شهدها حى الزاوية الحمراء ، ففى 17 يونيو من هذا العام المشئوم نشب عنف طائفى عنيف بين الأقباط والمسلمين فى الحى العتيق لمدة ثلاثة أيام متتالية ووصل عدد القتلى طبقا للتقرير الحكومى إلى 17 قتيلا و 112 جرحى، واستمر التصعيد من جانب البابا شنودة يأخذ شكلا زعاميا بصورة اكبر، ويقول الكاتب والسياسى القبطى جمال اسعد ملاك "اعتبر السادات ان البابا شنودة يريد ان يتحداه ويصبح زعيما للاقباط"، ولم لا لقد مارس البابا شنودة كل انواع الانشطة السياسية بما فيها الزيارات الخارجية، وكانت مجلة الكرازة - التى تصدر عن الكنيسة ويرأس تحريرها حتى الان البابا نفسه – تنشر انباء الزيارة تحت عناوين سياسية بارزة لا تقل عن تلك التى تنشر فى صحف الدولة الرسمية وعندما زار الأنبا شنودة الولايات المتحدة فى زيارة رسمية، والتقى بالرئيس الأمريكى آنذاك جيمى كارتر فى 14 أبريل 1977، نشرت عناوين مثل "اول بابا للاسكندرية يزور الولايات المتحدة ، "قداسة البابا يلتقى بالرئيس كارتر فى البيت الابيض بواشنطن"، وهكذا بدا الامر للسادات ضرورة الحذر مع التوجهات السياسية للبابا، حتى تلك التى اظهرها البابا بدعم توجهاته للسلام مع اسرائيل، حيث اعلن المجمع المقدس تأييده التام للتسوية، وارسل البابا برقية للسادات تحى جهوده "الرائعة" لاجل السلام وختم برقيته بترشيحه لجائزة نوبل للسلام، وعندما وقع السادات الاتفاقية نشرت مجلة الكرازة فى 23 مارس 1979 تقول " لقد فرح الناس ايضا لامكانية فتح القدس للزيارة مرة اخرى بعد 12 عام من غلق طريقها"، وهو ما دفع السادات الى ارسال وفد الى البابا يدعوه لاعداد وفود مسيحية لزيارة القدس فى اطار مجهودات السادات للتطبيع بين المصريين والاسرائيليين فى اعقاب توقيع الاتفاقية، وارسال بعثة الحج المسيحية الى بيت المقدس.. ولكن رداً صاعقاً جاءه من الأنبا الذى قال لرُسل السادات "أرجوكم إبلاغ الرئيس أننى لا أرى الوقت مناسباً لتنفيذ اقتراحه"، ليشتعل غضب السادات من هذا الموقف، وخاصة وانه كان قد وعد بيجن بانه لا يمانع من زيارة الاقباط للقدس، ولم يكن يتصور ابدا ان يجرؤ البابا شنودة على رفض طلبه، وفى هذه القضية تحديدا بدأ البابا يحصل على الجماهيرية ، بل ومارس المناورات السياسية حول اسباب الرفض التى بدأت بعدم اعادة اسرائيل دير السلطان التى استولت عليها من الاقباط فى اعقاب النكسة، وربط الزيارة بعودة الدير، بل وتطبيع العلاقات، ثم انقلبت لتصبح اسباب سياسية بحتة بعد موت السادات من عينة مراعاة الصالح العام ، والتضامن مع الاخوة المسلمين والحديث عن أن المشاكل التى تفصل مصر عن بقية العالم العربى – فى عهد السادات - ستحل ذات يوم وأنا لا أريد أن يكون أقباط مصر هم خونة الأمة العربية حينما تعود المياه الى مجاريها، وأنه لن يزور القدس إلا ويده فى يد إخوته المسلمين، لذلك انتهت علاقة السادات بالانبا شنودة تلك النهاية الدرامية فى احداث سبتمبر حين قبض السادات على 1536 من مختلف التيارات والاتجاهات السياسية والدينية، كان على رأسهم البابا الذى تم تحديد اقامته، وعزله من منصبه كما اشرنا من قبل، ليس لكونه رجل دين بل بوصفه سياسى محنك يجيد المناورات، وادارة دفة الامور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق