لا يوجد عبقرى واحد على ظهر البسيطة يعلم على وجه
اليقين ما الذى يفكر فيه أولئك المكلفون بإدارة شؤون البلاد.. ولا يوجد سياسي أو
مثقف من المتكلمين صباحا ومساءا قادر على الجزم بمدى تعمد هؤلاء إساءة إدارة
المرحلة الإنتقالية الى دولة الديمقراطية التى حسمت أمرها ثورة 25 يناير، أو كونه
خطأ فى الإدارة والتكتيك والتفكير.
فما بلغناه فى مصر يلامس حدود العبث ويتجاوزه الى
الخلل العقلى.. ويهدد الوطن بحالة من التردى والإنهيار.. ويدخله فى مستقبل غير
معلوم الملامح.
على الأرض بات الجيش – وليس المجلس الاعلى للقوات
المسلحة فقط – طرفا فى مواجهات مع الثوار، بعد أن واصل جنوده إستهداف الشعب، مع
سبق الإصرار والترصد، وبعد أن إنتقلت إليهم أمراض الغطرسة والتجبر والعنجهية
والعنف من جهاز الشرطة.
من كان يصدق أن يوما سيأتى على جيش مصر يرفع فيه
سلاحه فى وجه الشعب، ويعري بناته ويهتك سترهن، ويحطم عظام شبابه، ويعتدى على
كباره، ويتغطرس فى وجه مثقفيه، ويتعلل بأنه يحمي المنشآت بإزهاق الأرواح، تحت أى
مبرر.
تلك هى النقطة بالغة الخطورة أن يحل العداء والغل ومفاهيم
فقدان الثقة الإنتقام والثأر محل التوقير والتقدير لتك المؤسسة، الذى ترسخ فى
نفوسنا نحن المصريين منذ عهد الفرعون "أحمس" وحتى أمس الاول، وهو ما
سيترك أثرا فى الوعي الجمعى للشعب بمرور الوقت، وتكرار مثل هذه الجرائم.
وإذا كان المجلس الاعلى للقوات المسلحة قد حسم
بمؤتمره الصحفى الذى عقده عقب احداث مجلس الوزراء موقفه من تأكيد إستهدافه للثوار
والنشطاء السياسيين، وتصفيتهم جسديا ومعنويا بإعتبارهم الفصيل الوحيد الذى تضرر من
الثورة التى أشعلها من أجل وطن حر، فإن النقطة الأكثر خطورة من فقدان الثقة بمؤسسة
الجيش هى تحويل الثوار الى شياطين بالجملة عبر حملة تشويه وتصفية على كل
المستويات.
من هنا يصبح السؤال الصعب فى مواجهة غير منطقية بين
ثوار وهبوا أغلى ما لديهم من أجل ثورة وضعت تلك القيادات على مقاعدها الوثيرة.. هو
وماذا بعد؟؟
لنتخيل الصورة إذا ما غاب شباب الثورة عن المستقبل..
اولئك الصارخين بمطالب العدل والمساواة والمتهمين بالتخريب والعمل وفقا لأجندات
أجنبية وعبر أصابع مدسوسة وبآليات ممنهجة كما قال العسكر، هل سيكون المستقبل أفضل.
أعرف أن معظم الثورات يضيع فيها الثوريون
الرومانسيون الحالمون الغاضبون تحت أقدام من يركبون الموجة ويحولونها الى مكاسب
سياسية، والواقعيون الذين يرتضون بالمكاسب المؤقتة، وأصحاب المصالح رافعى شعار
"نفسي ومن بعدها الطوفان" والجوعى لرغيف خبز لم يعد مضمونا مسلحين بمبدأ
"عض قلب ولا تعض رغيفى".
لكننى أكاد أجزم بان تصفية الثوار أصحاب الصوت
العالى، القابضين على جمر أحلامهم، ليس فى صالح الوطن، ولا حتى فى صالح تجار الدين
الصامتين صمت القبور على قتل الثوار وتشويهم – والمساهمة فى محاربتهم وقتلهم
معنويا - ممن يظنون أنهم الأن يملكون الشرعية ويتطلعون الى حكم الشعب، لأنه حين
تتم تصفيتهم فصيلا فصيلا.. وفردا فردا، لن يجدوا من يحميهم ولا يحمى تطلعاتهم.
ليس ذلك ضربا للودع ولا قراءة فى فنجان أسود.. ولكن
الحكمة علمتنا أن الثيران جميعها أكلت يوم أن تركت الثور الأبيض القوى ليأكله
الأسد الذى إختاروه حاكما.. فى قصة إنتهت بالجملة الشهيرة لأخر ضحاياها "أُكلت
يوم أُكل الثور الأبيض".
كم أتمنى أن أكون مخطئا.. وأن يجعل خير أعمال
العسكر هو خواتيمها.. لكن مسيرة إدارة المرحلة الإنتقالية تجعلنى أتحسس جيبي بحثا
عن جواز السفر وعن أوطان لا تأكل أولادها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق